قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله في باب كثرة طرق الخيرات، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ مَعروفٍ صَدَقةٌ».
«المعروفُ»: ما عُرِف في الشرع حسنُه إن كان مما يتعبَّدُ به لله، وإن كان مما يتعامل به الناسُ فهو مما تعارف الناس على حُسْنِه، وهذا الحديث: «كُلُّ مَعْروفٍ.. » يشمل هذا وهذا، فكل عمل تتعبد به إلى الله فإنه صدقة، كما ورد في حديثٍ سابق: «كلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ، وكلُّ تهليلةٍ صدقةٌ، وكلُّ تحميدةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروفِ صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكرِ صدقةٌ».
وأمَّا ما يتعارف الناس على حسنِه مما يتعلق بالمعاملة بين الناس فهو معروف، مثل الإحسان إلى الخلق بالمال، أو بالجاه، أو بغير ذلك من أنواع الإحسان. ومن ذلك: أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ لا بوجه عبوسٍ، وأن تلين له القول، وأن تدخل عليه السرور؛ ولهذا قال العلماء - رحمهم الله -: إن من الخير إذا عاد الإنسان مريضًا، أن يدخل عليه السرور ويقول: أنت في عافية، وإن كان الأمر على خلاف ما قال، بأن كان مرضه شديدًا، يقول ذلك ناويًا أنه في عافية أحسن ممن هو دونه، لأن إدخال السرور على المريض سبب للشفاء. ولهذا تجد أن الإنسان إذا كان مريضًا مرضًا عاديًّا صغيرًا، إذا قال له الإنسان إن هذا شيء يسير هين لا يضر سُرَّ بذلك ونسى المرض، ونسيان المرض سبب لشفائه، وكون الإنسان يعلق قلبه بالمرض فذلك سبب لبقائه. وأضرب لكم مثلًا لذلك برجل فيه جُرح، تجد أنه تلهى بحاجة أخرى لا يحس بألم الجرح، لكن إذا تفرغ تذكر هذا الجرح وآلمه.
انظر مثلًا إلى الحمَّالين الذين يحملون الأشياء على السيارات وينزلونها، أحيانًا يسقط على قدمه شيء فيجرحه، ولكنه ما دام يحمل لا يشعر به ولا يحسُّ به، فإذا فرغ أحس به وتألم.
إذن فغفلة المريض عن المرض، وإدخال السرور عليه، تأميله بأن الله - عزَّ وجلَّ - سيشفيه، فهذا خير ينسيه المرض، وربما كان سببًا للشفاء.
إذن كل معروف صدقة. لو أن أحدًا إلى جنبك ورأيته محترًا يتصبب العرق من جنبيه، فروَّحت عليه بالمروحة، فإنه لك صدقة، لأنه معروف. لو قابلت الضيوف بالانبساط وتعجيل الضيافة لهم وما أشبه ذلك فهذا صدقة.
انظر إلى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما جاءته الملائكة ضيوفًا ماذا صنعه؟ قالوا: سلامًا. قال: سلام. قال العلماء: وقول إبراهيم (سلامٌ) أبلغ من قول الملائكة (سلامًا)، لأن قول الملائكة سلامًا يعني نسلم سلامًا، وهو جملة فعلية تدل على التجدد والحدوث. وقول إبراهيم: (سلامٌ) جملة اسمية تدل على الثبوت والاستمرار فهو أبلغ. وماذا صنع عليه الصلاة والسلام؟ راغ إلى أهله فجاء بعجل سمين.
﴿ فَرَاغَ ﴾: قال العلماء: معناه انصرف مسرعًا بخُفْيةٍ، وهذا من حسن الضيافة، ذهب مسرعًا لئلا يمنعوه، أو يقولوا: انتظر ما نريد شيئًا ﴿ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾ [الذريات: 26]، وفي الآية الأخرى: ﴿ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ [هود: 69].
﴿ حَنِيذٍ ﴾ يعني مشويًّا، ومعلوم أن اللحم المشوي أطعم من اللحم المطبوخ، لأن طعمه يكون باقيًا فيه ﴿ فَجَاءَ بِعِجْلٍ ﴾، والعلماء يقولون: إن العجل من أفضل أنواع اللحم، لأن للحمه لينًا وطعمًا. ثم قال تعالى: ﴿ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ﴾ ما وضعه في مكان بعيد وقال لهم اذهبوا إلى مكان الطعام وإنما قربه إليهم.
ثم قال: ﴿ أَلا تَأْكُلُونَ ﴾ ولم يقل لهم: كلوا. و(ألا) أداة عرض يعني عرض عليهم الأكل ولم يأمرهم.
ولكن الملائكة لم يأكلوا، فهم لا يأكلون، ليس لهم أجواف، بل خلقهم الله من نور جسرًا واحدًا: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 20]، دائمًا يقولون: سبحان الله، سبحان الله، فلم يأكلوا لهذا السبب.
﴿ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ لأنهم لم يأكلوا، يقولون: إنه من عادة العرب أن الضيف إذا لم يأكل فقد تأبَّط شرًّا، ولهذا فمن عادتنا إلى الآن أنه إذا جاء الضيف ولم يأكل قالوا: مالح، يعني ذق من طعامنا، فإذا لم يمالح قالوا إن هذا الرجل قد نوى بنا شرًّا. فنكرهم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وأوجس منهم خيفة ﴿ قَالُوا لا تَخَفْ ﴾ ثم بينوا له الأمر ﴿ قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ [الذريات: 28] وكان قد كبر، وكانت امرأته قد كبرت. ﴿ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ ﴾ لما سمعت البشرى ﴿ فِي صَرَّةٍ ﴾ أي في صيحة ﴿ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ﴾ عجبًا، ﴿ وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾، يعني أألد وأنا عجوز عقيم؟ قالت الملائكة: ﴿ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ﴾ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ يفعل ما يشاء إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون.
ثم قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيم ُ ﴾ [الذريات: 30]، وهنا قدَّم الحكيم على العليم، وفي آيات كثيرة يقدم العليم على الحكيم، والسبب أن هذه المسألة، أي كونها تلد وهي عجوز خرجت عن نظائرها، ما لها نظير إلا نادرًا، فبدأ بالحكيم الدال على الحكمة، يعني أن الله حكيم أن تلدي وأنت عجوز.
المهم أن إبراهيم - عليه الصلاة السلام - قد ضرب المثل في حسن الضيافة، وحسن الضيافة من المعروف، وكل معروف صدقة، فاصنع للناس خيرًا ومعروفًا، واعلم أن هذه صدقة تثاب عليها ثواب الصدقة. والله الموفق.
جزاك الله خير الجزاء
وشكراً لطرحك الهادف وإختيارك القيّم
رزقك المــــــــولى الجنـــــــــــــة ونعيمـــــها
وجعلــــــ ما كُتِبَ في مــــــوازين حســــــــــناتك
ورفع الله قدرك في الدنيــا والآخــــرة
وأجـــــــــزل لك العطـــاء