بسم الله الرحمن الرحيم [ - الحضارة في الّلغة مأخوذٌة من الفعل حَضَرَ ، و هي عكس البداوة ، إذ تعني : { الإستقرار و النمو } . - و هي اصطلاحاً تعني : { مجموعة المظاهر العلميّة ، و الثّقافية ، و الأدبيّة ، و الفنِّيَّة الإجتماعية الموجودة في مجتمع ما } . و كل حضارة جاءت متمّمةً للحضارة التي سبقتها ، و تُسهم هذه الحضارات في البناء الحضاري الإنساني للعالم بأكمله . - و أما الحج كما جاء في " لسان العرب " فهو : { القصد } ، حَجَّ إلينا فلانٌ أي قَدِمَ . - و الحج : { قصد التوجه إلى البيت بالأعمال المشروعة فرضاً و سُنَّةً } . - و هو : { قصد الكعبة لأداء أفعال مخصوصة } . - أو هو : { زيارة مكان مخصوص ، في زمن مخصوص ، بفعل مخصوص } . و هي عبادة عظيمة اشتملت على جملة من المقاصد و الغايات ، و من ذلك اشتمالها على مجموعة من المعالم الحضارية ، و من أهمها : ١ - القِدَم في أعماق التاريخ و الإستمرارية : كلما كانت الحضارة عميقة في جذور التاريخ و مستمرة كانت أقوى و أرسخ ، و هو ما خصّ الله به هذه الأمّة إذ أورثها أقدم بيت في التاريخ : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ) آل عمران : ٩٦ ، فهذه الأولية انتظرت هذه الأمة حِقَباً متطاولة تكريماً و تفضيلاً . و بعد نيل الأمة لها استمرت على رعاية البيت و حراسته ، و ظل شامخاً عظيماً يستقبل زواره و قاصديه على الدوام ، فهذا القِدَم و الإستمراية دلالة على رسوخ الحضارة الإسلامية و عظمتها . ٢ - الإتصال بقيم التوحيد و العبودية : فالحضارة لها مكونان : مادي و معنوي ، متى ما تأخر أحدهما انهارت . فالجانب المادي واضح ، و أما المعنوى فهو اتصال البيت بعقيدة التوحيد في أبهى معانيها : ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) الحج : ٢٦ . فالعقيدة هي المدد الروحي لاستمرار الحضارة الإسلامية و استدامة قوتها و اتصال سيرها و ترابطها . ٣ - التواصل الحضاري : إن تواصل الحضارة الإسلامية بالحضارات القديمة لَهُوَ عامل قوة و ثراء ، فقد جمع الله حول البيت أعظم مكونين حضاريين للإنسانية و هما : حضارتا الفرات و النيل ؛ ليجتمع الساميون و الحاميون في لقاء تاريخي بديع إذ يتزوج إمام الحنفاء إبراهيم - عليه السلام - " الكلداني " القادم من العراق مهد أعظم الحضارات الإنسانية بالأميرة النوبية هاجر التي تنتمي إلى كوش بن حام بن نوح المنتمية لحضارة النوبة مهد الحضارات الإنسانية ؛ و تنجب الحضارتان جد العرب المستعربة إسماعيل - عليه السلام - و الذي يتزوج من العرب المُساكِنِين له حول البيت . هذا التلاقي الرائع أعطانا امتداداً و تواصلاً حضارياً بديعاً ليحقق عالمية حَمَلَة الرسالة الخاتمة و الذين ينتمون إلى كل العالم القديم لتتحقق إنسانية الرسالة و عالميتها ، و البيت الحرام هو الرمزية العبقرية لهذا الألق و البهاء و الإشراق . ٤ - رسوخ مركز الحضارة على مدى الأزمان : إن الحرمين الشريفين هما مركز الحضارة الإسلامية ، و من العجيب أنه فى فترات ضعف و انهيار حكومات المسلمين فقد ظل هذا المركز محافظاً على قوته و إلهامة غير متأثر بحالة الضعف التي تعتري مسيرة الأمة الإسلامية ؛ مع أنه في حالة إنهيار معظم الحضارات فإنه في الغالب تنهار مراكزها كما حدث للحضارة النوبية و البابلية و الفرس و الروم ، فبمجرد إنهيار الدولة ينهار المركز عدا هذه الأمة التي ميزها بمركز قوى لا ينهار أبد الدهر ، و هذا مَعْلَمٌ حُقَّ للأمة أن تفاخر به . ٥ - رمزية البيت الحرام : لقد ظلت الكعبة المشرفة من يومها الأول تمثل صرحاً حضارياً شامخاً لجميع البشر ، و هي حرم الله تشريفاً لمكانتها عند الله ، يقول الله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ ) آل عمران : ٩٦ . و كانت حرمته قديمة و باقية عبر العصور ، فإن العرب في الجاهلية تعرف هذه الحرمة و عظمتها ، ثم جاء الإسلام لإبراز تلك الحرمة و بيانها و هي ميزات خالصة لهذا البيت عند الله . و كانت البيوت تُبْنَى قبل بناء إبراهيم - عليه السلام - الكعبة ، لكنها لم تُبَوَأْ هذه المكانة في تاريخ البشرية ؛ بل لم تقاربها ، و يلوح هذا المعنى بجلاء أكثر لو تأملنا قوله تعالى : ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) آل عمران : ٩٧ ، فيه تنويه لبعض معالم حضارية خالدة في هذا البيت المبارك ، سَمَّاها ( آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ) ، إشارة إلى آثار محسوسة خلدها التاريخ ، منها : الحجر الأسود ، و مقام إبراهيم - عليه السلام - و هما ياقوتتان من الجنة كما صح بذلك الخبر ، و منبع زمزم و غيرها . و تتصل الرمزية بوفود و مواكب الأنبياء و الرسل الحجيج إليه : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا ، مِنْهُمْ مُوسَى ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ و َعَلَيْهِ عباءتانِ قَطْوانِيَّتانِ ، وَ هُوَ مُحْرِمٌ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ شَنُوءةَ ، مَخْطُومٍ بِخِطَامِ لِيفٍ لَهُ ضَفْرَانِ ) حسنه الألباني في "صحيح الترغيب " ، فأَعْظِمْ بها من رمزية وضاءة مميزة . ٦ - المساواة في الحج : إن من أعظم المعالم الحضارية للحج أن الناسُ مُتساوون في أحكام الحج و مناسكه من حيث الأصل ، فليس لأحدٍ ميزة على الآخر ، ولا يختصُّ جنسٌ بحُكْمٍ دون آخر ؛ و لهذا لما زعمت قريشٌ في الجاهليَّة أنهم من أهل الحرم فلا يخرُجون من الحرم إلى عرفة ، فكانوا يَقفون في مزدلفةَ ، أبطَل الله زعمَهم بقوله : ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) البقرة : ١٩٩ . و هذا جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - يُبيِّن كيف أبطَل الرسول صلى الله عليه و سلم هذا الزَّعْم في وصفه لحجِّ النبي صلى الله عليه و سلم قائلًا : ( فسار رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ولا تَشكُّ قريش إلا أنه واقفٌ عند المَشْعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فأجاز رسولُ الله صلى الله عليه و سلم حتى أتى عرفة َ، فوجد القُبَّة قد ضُربت له بنَمِرة َ، فنزل بها ، حتى إذا زاغتِ الشمسُ أمرَ بالقَصْواءِ فرُحِلَتْ له ، فأتى بطنَ الوادي ) أخرجه مسلم ، فيَتبيَّنُ من ذلك أنه لا فرقَ بين قبيلة و أخرى ، أو بين جنسٍ و آخرَ في أحكام النُّسُك . هكذا تتجلَّى مظاهرُ المساواة في هذا المَشعَر العظيم ، حيث تجتمع وفودُ المسلمين من شتَّى أنحاء المعمورة ليرجعوا إلى ديارهم عاملين بمقتضى هذا المبدأ العظيمِ في الإسلام . و لعلَّ هذا سرُّ إغتنام النبيِّ المصطفى صلى الله عليه و سلم هذه الفرصةَ الثمينةَ لإرساء دعائمِ هذا المبدأ العظيم في خطبته في حجة الوداع ، حينما خطب في الصحابة قائلًاً : ( يا أيها الناس ، إن ربَّكم واحد ٌ، و إن أباكم واحدٌ ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجمي ، ولا عجميٍّ على عربي ٍّ، ولا أحمرَ على أسود َ، ولا أسودَ على أحمرَ ؛ إلا بالتقوى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، ألا هل بَلَّغْتُ ؟ ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : فلْيُبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ ) أخرجه الإمام أحمد في مسنده . فما أعظمها من مشاعر حضارية تميزت بها أمتنا و ضاعت تحت أقدام مدعي التطور و التحضر اليوم فبئست إنسانيتهم و خسئت إدعاءاتهم . ٧ - الإهتمام الرسمي و الشعبي بشعيرة الحج : ظلت الأمة حكاماً و محكومين ترعى عبودية الحج و مقدسات الأمة أتم الرعاية محبةً و حمايةً و تطويراً و ذلك منذ آماد بعيدة و حقب متعددة . و مع تزايد الحاجة و تطور الحياة إزداد الإهتمام بالحرمين ليواكب ذلك أشد المواكبة ، و خلال العقود الثلاثة الماضية إلى الوقت الراهن يشهد هذا الحرم المبارك توسعات كبيرة تشمل المشاعر كلها ، تبرز جهود المملكة العربية السعودية في تفاعلها المتزامن مع معطيات العصر الحضارية ، و تستغل تقنيات مدنية جديدة ، و وسائل حديثة ، لتسهيل أداء المناسك على الحجاج . هدفها إظهار الجانب الحضاري لهذا الدين و أهله ، و تعامل المسلم مع المعطيات الحضارية و الثمرات العلمية و التقدم المدني في كل مناحي الحياة . أبرز هذه المظاهر الحضارية الحديثة : روح التعاون و الإستجابة لمتطلبات ظروف الحج لدى المسلمين ، و مساعدة الأجهزة الأمنية على تقليل الأخطاء ، و الإلتزام بالأنظمة و الإستجابة للقوانين ، و استخدام وسائل النقل من قطارات و سيارات بالطرق السليمة ، و الترفق في الزحام ، و الحرص على النظافة ، و إعطاء الطرق حقها ، كلها مظاهر حضارية تليق بالمسلم الذي يستمد منهج حياته من دينه ما يصدر عنه من أخلاق تنشر السكينة و الإطمئنان . و الجدير بالذكر أن السودان نال شرفاً من ذلك في كسوة الكعبة ، و محمل الكعبة ، و إطعام الحجيج . ٨ - إجتماع الأمة و مظاهر الوحدة : و هي من أعظم المعالم الحضارية ، فلا يشبه إجتماع المسلمين في عبودية الحج و إنتظام المشاعر للقاصدين خاصة و لغيرهم إجتماع آخر البتة ، و هو دلالة على عظمة هذا الدين و شعبه لتقريب الأمة و حثها على مظاهر الوحدة و الإعتصام ، و البعد عن الخلاف ، و هو مظهر مدني متحضر عبودي متجذر ، قال تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ ) آل عمران : ١٠٣ ، و قال : ( ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِين َ) الحج : ٣٢ - ٣٤ . فكل ما يتصل بعبادة الحج يصل الأمة بضرورة الإعتصام و الوحدة ؛ فالإله الواحد و القرآن المتلو و الرسول المتبع و القبلة الواحدة و وحدة الشعائر و المشاعر و المناسك و توقيتاتها و غيرها . و عليه ؛ فإن هذا الإجتماع المبارك ينبغي أن يُسْتَغَل للمزيد من تعميق أواصر الإخاء الإيماني ، و تقريب وجهات النظر ، و تمديد وسائل التحاور بين علماء الأمة و منظوماتها و منظماتها و دولها ، و وضع إستراتيجيات كلية للمزيد من الإلتقاء ، و تجسير الهوة ، و التصدي الجمعي لمظاهر الفرقة و الشتات ، فما يجمع الأمة أقوى و أعمق و أكبر مما يفرقها . ختاماً : فهذه إلمَاحَات عامة و مختصرة عن بعض المعالم الحضارية_لعبودية الحج سائلين الله أن يسلم الحجاج ، و يشملنا معهم في الأجر و الثواب ، و يجمعنا بهم في تلك البقاع الطاهرة . و الحمد لله رب العالمين ] انتهى . أحمد حامد الجبراوي