مع أرواح يوم عرفة تنفَتِح السماء على الأرض، فتُقدِّم في صِحافٍ من نُورٍ هُدَى الله، وتتحف بمعاني العزَّة وخير الدارَيْن، وتشحن بقُوَى راشدة سلمتْ من الانفِعالات الدُّنيا المثقَلة بالحقد والبغي والشنآن.
وتَجُودُ السماء بسورة المائدة التي تحفل بتلك الصحاف، والتي تَتضافَر آياتها كي تَصنَع المسلم القويَّ السويَّ وتسحَج قُواه، وتُقِيمه على الموضوعيَّة، وتحقنه بترياق البصيرة والأناة والرِّفق؛ كي تَتفاعَل هذه مع ما أُتِيح للمسلم - يومئذٍ - من قوَّة فتنتج العزَّة السمحة، والشدَّة الحانية والسُّلطان الحكيم.
بلا ضَرر ولا ضِرار، ولا غَدر ولا خِيانة، ولا تَجَنٍّ ولا شَنآن، بل تعاون بار، وتواصٍ بالخير، وبسط لأجنحة المودَّة، ودفْع بالتي هي أحْسَن.
والمائدة بما حَوَتْ من دسم استحقَّت أنْ تكون المئذنة التي ارتفع منها أذان الكمال، وانبعَثَ ألق الوسام الرباني الذي قلدته هذه الأمة، فغمر وهجه الآفاق، وأثار حَفائظ أُوكِيت على الحِقد والحسد والبغض.
نعم، مع أرواح يوم عرفة يُطالِعنا موقف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ناقته العضباء بعد العصر من يوم الجمعة يستَقبِل مددَ السماء، ويتلقَّى عن الله قولاً ثقيلاً كاد عضد الناقة ينقدُّ من شدَّته[1] حتى بركت، والصحابة من حوله يتلقَّفون - واعين - مَدَدَ الوحي، ويتلون - فيما يتلون - قولَ الله: ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
وترسخ الآية بكلِّ أبعادها، ويحسُّ المسلمون - خِلال البشرى - رهبةَ الموقف، وجَسامة المسؤوليَّة، وثقل الأمانة التي أُلقِيت على كواهلهم بهذا الإعلان العظيم، مسؤولية الحركة واليقظة والدأب، صيانةً للوديعة، وحِفاظًا على الكمال، وبثًّا للأريج، ونشرًا للسَّنا، وكسرًا للحواجز... إلخ.
والمولى إذ يَبلُو المسلمين بهذه المسؤوليَّة يُعِينهم عليها، فيذكر في السورة حقائق تذودُ وتصونُ وتمنعُ عوامل التآكُل من أنْ تدبَّ إلى الكيان وتنخر في البُنيان.
5- وآيات تُحذِّر من العماية في تحديد جهة الولاية… وآيات ثم آيات.
والقُرآن بهذه الإشارات التي صدَرت بعد أنْ بُوِّئتْ مكانة الكمال، يُحِيطك عِلمًا بالأدواء التي تفتك بالأمم وتنسف المواقع، وتُزَلزل الأركان حتى تتبيَّن وتُحذِّر، ويزيدك علمًا بأعدائك الذين يتحيَّنون حينَك ويستعجلون ساعة سُقوطك حتى تتيقَّظ وتبصر.
إيحاء الآيات السابقة:
والآيات التي مهَّدت ليوم الكمال تخرط الكيان المسلم، وتسحج الشوائب، وتضَع اللمسات الأخيرة على صرْح سمق وارتَفَع، وأمَّة استَكمَلت - في هدي القرآن - مناهج التربية التي تعد للدارين وتستهدف الحياة الموصولة الممتدَّة حتى الفردوس الأعلى.
أمَّة أضحتْ بفضل الإعداد السماوي والتربية القرآنية حرَّةً تملك في حمى الله زمام نفسها، وتُدبِّر في هدى الشرع شؤون ملكها، مكتملة عزيزة في مقدورها أنْ تلاين وتعنف، وأنْ تعدل وتظلم، وأنْ تفي وتغدر.
فلا عجب إذا استفتحت السورة بنداء الإيمان الموحِي بالعزَّة والرشد والرزانة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [المائدة: 1]، ثم ذهبت تدعو إلى الوَفاء، وتحذر من طُغيان الهوى، وتغلب الاتجاه المادي؛ ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ [المائدة: 1].
ولا عجب إذا نَهاك بحقِّ الإيمان عن أنْ تطمس حُدودًا، أو تتعدَّى معالم، أو تُنتَهك حرمة أو تخلُّ بشَعائِر الله وشَرائِع دينه التي أُمِرنا بتعظيمها؛ ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
وإذا كان هذا هو حُكم الإيمان في سائر الأحوال ومع عامَّة الناس، فإنَّ لوفود الرحمن وهَدايا الرحمن مزيدَ حُرمة تستَوجِب مزيدَ توصية؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ[2] وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ﴾ [المائدة: 2].
وحذَّر أنْ يُفضِي بك العَدْوُ - بفتح العين وسكون الدال - إلى عُدوان، وخشية أنْ تطوح بك شهوة الطراد والقنص إلى خارج المجال الروحاني الوقور، وحتى لا تَنال شوائب المُتَع من جلال الزمان والمكان، يأمُر الله المحرم أنْ يوسع دائرة الأمان حتى يشمل وحوش البريَّة؛ ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ﴾ [المائدة: 2].
وتَمضِي السورة في طريق الإعداد ليوم الكمال فتسمو بالمؤمن أنْ تدعوه قُدرته على الظُّلم، وأنْ تغرَّه قوَّته فيجمع مع دَواعِي الغضب دوافِعَ الثَّأر والانتقام؛ ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ[3] شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ﴾ [المائدة: 2].
هكذا يُؤمِّن الله مسيرة الحجيج وفجاج القوافل، وكذلك يشذب قُوَى المؤمنين حتى تكون بنَّاءة عاقلة، فلا صدَّ ولا عُدوان، ولا انتِهاب ولا غبن، ولا استغلال لأحدٍ ممَّن يؤمُّ البيت بل استِئلاف ولُطف تنبسط به النُّفوس، وتشيد بذكره الألسنة؛ فتعظم الدعاية.
إنَّ القُرآن وهو يدرج بالمؤمن نحو الذروة يرفَعُ في سماواته شعار: لا عدوانية ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ... ﴾ [المائدة: 2]، ولَمَّا كان العدوان غالبًا ما يتمُّ بطريق التظاهُر أمروا أثر ما نهوا عنه في ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ... ﴾ [المائدة: 2] بالتعاون على كلِّ ما هو من باب البرِّ والتقوى، ومتابعة الأمر، ومجانبة الهوى… إلخ.
ودخَل في ذلك ما نحن بصدَدِه من التعاوُن على العفو، والإغضاء عمَّا وقع منهم دُخولاً أوليًّا ثم نهوا عن التعاون في كلِّ ما هو من مقولة الظُّلم والمعاصي، فاندَرَج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني[4].
ودخَل في ذلك ما نحن بصدده من التعاون على العفو، والإعضاء والمحارم، وتحرم إعانة المعتدي والعاصي وتكثير سَوادهم، وترويج باطِلهم، والتستُّر على ضَلالاتهم وغيِّهم بوجهٍ من قول أو فعل أو موالاة أو مؤازرة من منطلق النفعيَّة، أو العصبيَّة، أو الحزبية... إلخ.
ولأهميَّة قضيَّة التعاون يَقِفُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيالها وَقفات مُتأنِّية محيطة تنفَع المؤمنين، من ذلك:
1- ما أخرجه مسلم في "صحيحه" عن النواس بن سمعان قال: سألت رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن البرِّ والإثم فقال: ((البرُّ حُسن الخلق، والإثم ما حاكَ في صَدرِك وكرهت أنْ يطَّلع عليه الناس)).
2- وما رواه مسلم عن أبي مسعودٍ البدري - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن دلَّ على خيرٍ فله مثْل أجْر فاعِلِه)).
3- وما رواه مسلمٌ عن أبي هريرة - رضِي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن تَبِعَه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضَلالةٍ كان عليه من الإثم مثلُ آثام مَن تَبِعَه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)).
4- وما رواه أحمد والشيخان عن أنس بن مالك - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) قيل: يا رسول الله، هذا نصرته مظلومًا، فكيف أنصره إذا كان ظالمًا؟ قال: ((تحجزه وتمنَعه من الظُّلم، فذاك نصرُك إيَّاه)).
5- وما رواه الطبراني عن أوس بن شرحبيل أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن مشى مع ظالمٍ ليُعِينه وهو يعلم أنَّه ظالم، فقد خرج من الإسلام))؛ رواه الضياء المقدسي أيضًا، وهو ضعيف[5].
لمسات إلهيَّة، وإبراز مستأنف لبعض المحارم على سبيل التذكير والتأكيد، حتى إذا سحجت القلوب، وتهذَّبت الطباع وتهيَّأت لمقامات الكمال منَحَها الله وسامَ الكمال، واستَودَعها دينًا حصينًا منيعَ الجوانب، فيَّاضًا بالهدى والعزَّة.
[1] روى الإمام أحمد في "مسنده" عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخِذةٌ بزِمام العضباء - ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ نزَلتْ عليه المائدة كلها، فكادتْ من ثقلها تدقُّ عنق عضد الناقة.
[2] لا تنتَهِكوا حُرمة المناسك، ولا تصدُّوا المتنسكين.
[3] لا يحملنَّكم على الجريمة شدَّة بُغض قوم.
[4] من "محاسن التأويل" نقلاً عن أبي السعود.
[5] انظر: "ضعيف الجامع الصغير"، رقم 5859.
[6] ما ذُكِر عليه اسمُ غير الله من صنم أو طاغوت... إلخ.
[7] هي التي تموتُ بالخنق قصدًا أو اتفاقًا.
[8] الموقوذة: هي التي قُتِلت صدمًا بالخشب ونحوه.
[9] هي التي تردَّت وسقطت من حالق.
[10] هي التي نطحَتْها أخرى فماتت.
[11] ومثل هذا ما ذبح حول الأضرحة وعلى الأعتاب.
[12] نهى عن التنجيم ونحوه، وعن ضروب الميسر