الحمدُ لله رب العالمين، أحمده وأستعين به وأستهديه وأستغفره، وأعوذ بالله من شر نفسي ومن سيئات أعمالي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللَّهم صلِّ على سيدنا محمدٍ النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت ربَّنا على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أَيُّها الأحبة في الله؛ أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله جلَّ وعلا، امتثالاً لما أمرنا الله جلَّ وعلا به في القرآن فقال بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، وبعد:
لمَنْ الفلاح والنجاح في الدارين؟
أَيُّها الأحبة في الله، حديثي اليوم إلى حضراتكم يدور حول تفسير آيات من كتاب ربنا من صدر سورة المؤمنون.
يقول الله عَزَّ وَجَلَّ بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون: 1 - 7].
أَيُّها الأحبة في الله، الله عَزَّ وَجَلَّ يقول:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ والفلاح هو السعادة في الدارين:
•
السعادة في الدنيا: أن تعيش على طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ.
•
والسعادة في الآخرة وهي: أن تنعم بجنة رب العالمين، ولذة النظر إلى وجه رب العالمين في الجنة إن شاء الله جلَّ وعلا.
الخاشعون في الصلاة:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ ما هو الخشوع؟
الخشوع: عبارة عن حضور القلب وسكون الجوارح لله رب العالمين، قلب حاضر يعي ما يقول؛ لأنه ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها[1]، بمعنى: أنك تدرك كل كلمة تنطق بها وأنت في صلاتك، فأنت حينما تقف بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ وتقول: "الله أكبر" فهو أكبر من نفسك التي بين جنبيك، وأكبر من مالك، وأكبر من وظيفتك، وأكبر من مصالحك الشخصية وأكبر من كل شيء، فأنت حينما تستحضر هذا المعنى، معنى التكبير لله عَزَّ وَجَلَّ، فأنت قد دخلت أول مرحلة من مراحل الخشوع في الصلاة.
ثم بعد ذلك:
«﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ حَمِدَني عَبْدي، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أثنى عليَّ عبدي، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ مَجَّدني عبدي ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل»[2]فحينما يستحضر المسلم معاني الفاتحة (فاتحة الكتاب) وهو بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ لا يقرأها بتكاسلٍ ورتابة، وإنما يقرأها بتأمل وتدبر وخشوع لله عَزَّ وَجَلَّ:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، فإذا تأملت واستحضرت معاني الفاتحة وأنت بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ في الصلاة فهذه هي المرحلة الثانية من مراحل الخشوع في الصلاة وأنت بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ.
وكان الخشوع في الصلاة من دأب الصحابة أجمعين، من دأب الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان خشوع النبي في الصلاة يبدأ من قبل الصلاة، حينما يسمع المؤذن ينادي للصلاة، كانت أُمُّنا عائشة تقول: كان يكلمنا ونكلمه، وكان في خدمة أهله، حتى إذا أتت الصلاة فكأنه لا يعرفُنا ولا نعرفُه. فخشوع النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يبدأ من الأذان من قبل الدخول في الصلاة أَيُّها الأحبة.
فالمسلم يحرص على أن يؤدي الصلاة بأركانها وشروطها وواجباتها، وأن يؤدي الصلاة أيضًا بروحها، وروح الصلاة كما تعلمون هو الخشوع؛ لأن الصلاة بلا خشوع تشبه - أَيُّها الأحبة، أضرب لكم مثالاً - الجسدَ بلا روح، فلو أن هناك جسدًا بلا روح فلا قيمة له، بل بالعكس دفنه في التراب أكرم له، لأنه جسد بلا روح، إذا تغير جسم الإنسان فتقول: الجثة، لماذا الجثة؟ لأن الروح خرجت منها، ويجب على الجميع أن يواريه في التراب؛ لأنه جسد بلا روح، فكذلك الصلاة أَيُّها الأحبة، إذا أديتها بأركانها وشروطها ومستحباتها وليس فيها خشوع، يقول: يا شيخ أؤدي الصلاة كما أمرني الله.. لا يا أخي، أنت تؤديها بالأركان والواجبات والمستحبات، ولكن ليس فيها روح، وهو الخشوع لله عَزَّ وَجَلَّ، فينبغي على المسلم أن يؤديها بأركانها وشروطها وكذلك بروحها.
الماسكون على ألسنتهم:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 1 - 3] ما من يوم يصبح فيه الإنسان إلا والأعضاء كلها تكفِّر اللسان، وتقول له: يا لسان اتقِ الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت يا لسان استقمنا، وإن اعوججت يا لسان اعوججنا.
وهذا صِدِّيق الأمة الأكبر، الصِّديق أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كان يُمسك لسانه بيده ويقول: (
هذا أوردني الموارد) أي: أوردني المهالك. فرد عليه عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقال: (
هوِّن على نفسك يا خليفة رسول الله) فقال: (
هذا أوردني الموارد). فإذا كان هذا حال صِدِّيق الأمة، إذا كانت هذه الحالة العظيمة هي حالة صِدِّيق الأمة فما بالنا نحن أَيُّها الأحبة؟
والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حينما قال له معاذ: أَوَ إنَّا لمؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟ هذا الكلام الذي نتكلم به، أَوَ إِنَّا لمؤاخذون بهذا الكلام؟ قال:
«ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يُكب الناس على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا من حصائد ألسنتهم؟»[3].
فإذًا الكلمة خطورتها عظيمة في الإسلام، هذه الكلمة بكلمة واحدة يتزوج الإنسان، وبكلمة واحدة يطلق الإنسان، وبكلمة واحدة يبيع الإنسان أو يشتري بلسانه، كلمة واحدة فقط، فإذا كانت هذه خطورة الكلمة، وبكلمة واحدة تدخل في الإسلام، وبكلمة واحدة تخرج من الإسلام. يا سبحان الله! الزواج بكلمة والطلاق بكلمة والإسلام بكلمة والكفر بكلمة؛ إذًا الكلام في الإسلام والكلمة في الإسلام لها خطرها العظيم؛ ولذلك يا إخواني الكرام لما كان أصحاب النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يسألون النبي عن النجاة، فهذا عقبة بن عامر قال: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال:
«أمسك عليك لِسَانَك، وَلْيسعْك بيتك، وابكِ على خطيئتك»[4]، فهنا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل إلى أن يمسك عليه لسانه، وأخبره أن الإمساك عن كثرة الكلام هو من النجاة التي ينجو بها الإنسان في دنياه وفي أخراه.
ولذا قال الشاعر:
احـــــفـــــظ لـــســــانــــك أيـــــهــــــا إنـــــســــــان لا يـــــلــــــدغــــــنـــ ـــك إنــــــــــــــــــه ثـــــــعـــــبــان
كـم فـي الـمـقـابـر مـن صَـريـع لـسـانـه كــانـــت تــهـــاب لــســانـــه الــشــجــعـــــــــان
وهذا الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ يقول:
إذَا شـــئْــــتَ أَن تَــحْـــيَـــا وديــــنــــك ســــالــــم وحــــظـــــك مـــــوفُـــــورٌ وعِـــــرْضُـــــكَ صَـــــيّـــــنُ
لِــسَــانـــكَ، لا تـــذكــــر بــــــه عــــــورة امــــــرئ فـــعــــنــــدك عَـــــــــوْرَاتٌ ولِــــلــــنَّــــاس أَلـــــسُــــــنُ
وعَـــيْـــنَـــاكَ إِنْ أَبْـــــــدَت إلــــيــــك مـــسَـــاوئًــــا فـصُـنْـهــا وقـــل: يـــا عَــيْــنُ لـلــنــاس أعــيُــنُ
وعَـاشِـرْ بـمَـعْـرُوفٍ وجَـانِـبْ مَـنِ اعـتَـدى وفــــــارقْ ولـــكــــنْ بـــالـــتـــي هـــــــي أحْــــسَــــنُ